شياطين الجن
1-2-1-شياطين الجن
قبل أن أبدأ الكلام عن هؤلاء المخلوقات الملعونة، أتحصّن بالله السميع العليم من كل الشياطين وأقول:
*أعوذ بالله من كل الشياطين، ألعنهم جميعا بلعنة الله التامّة،
*أعوذ بالله من كل الشياطين، ألعنهم جميعا بلعنة الله التامّة،
*أعوذ بالله من كل الشياطين، ألعنهم جميعا بلعنة الله التامّة،
وأقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: من همزه ونفخه ونفثه".
وأقول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان".
و اتدثر بقول العزيز الجبار تبارك وتعالى من سورة المؤمنين:
"وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون". وأتلو قوله عز وجل من سورة النحل:
"فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون". وأتقوى على إبليس اللعين بقول الله عز وجل من سورة الأعراف:
"وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم.إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
وأتوكل على الله تعالى بالآية الكريمة من سورة التوبة:
"حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم". بعد ذلك أداهم شياطين الكون بثبات الراسخين في العلم وعظمة المجاهدين في سبيل الله جل جلاله وعز شأنه وعظم سلطانه. ثم أتساءل: هل تصرف الإنس والجن تصرفا مطابقا لقول الله تعالى من سورة الذاريات: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" ؟ و الإجابة عن هذا التساؤل هي بيت القصيد من البحث الثاني والبحث الثالث من المقصد الأول من" البداية والنهاية". واستغرق ذلك أكثر من عشر سنوات لتصنيف الشياطين حسب أساليب تضليلهم ومناهج مكرهم بأمم الإنس والجن. ثم نظمت بينهم انتخابات خيالية عامة، نصبت إثرها فرعون موسى إمبراطورا على المملكة الملعونة: مملكة شياطين الإنس، عليهم وعلى شياطين الجن لعائن الله الدائمة السرمدية. قال الله تعالى:
"ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا. انما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير " "فاطر: 6 "
إن كل شيطان من شياطين الكون لابد أن يكون إما من أمم الجن، وإما من أمم الإنس، فليس هناك جنس آخر يمكن أن يتولد منه الشياطين. ورغم تستر شياطين الجن وخبثهم ومكرهم واستحالة مشاهدتهم بالعين المجردة، فسأجمع –إن شاء الله تعالى وبعونه- أصح ما ورد عنهم من أخبار وأفعال. فقد أثبت الله تعالى وجودهم في الكثير من آيات القرآن الكريم، ودلت عليهم آثارهم الجهنمية والجرائم التي يرتكبها كل حين أحزابهم من شياطين الإنس.
إن ألفاظ: إبليس، والجن، والجان، والمردة، والعفريت، والشيطان والقرين قد وردت في القرآن الكريم للإشارة إلى شياطين الجن، بينما وردت ألفاظ: آدم، والبشر، والإنس، والناس، وابن آدم، والإنسان، والقرين للإشارة إلى معشر الإنس بصنفيه: عباد الله وعبدة الأصنام والأوثان والصلبان. وتسميتي لأشرار الإنس بالشياطين قد وجدتها في القرآن الكريم:
"وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا: شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا". "الأنعام: 112".
وكذلك في سورة " البقرة" في سياق الكلام عن المنافقين واليهود: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون". كما استعملها الشيخ ابن كثير في سياق كلامه عن فرعون في "قصص الأنبياء"، واستعملها الشيخ جابر الجزائري في "عقيدة المؤمن".
وقال ابن جرير: و شياطين كل شيء: مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن. وقال الإمام ابن منظور في "لسان العرب": أبلس من رحمة الله أي يئس وندم ومنه سمي إبليس، وكان اسمه عزازيل،… وكل عات متمرد من الجن والإنس: شيطان.
وتشيطن الرجل وشيطن إذا صار كالشيطان وفعل فعله. و الشيء إذا استقبح شبه بالشياطين ويقال كأنه وجه شيطان، وكأنه رأس شيطان. والشيطان لا يرى، و لكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء ولو رؤي لرؤي في أقبح صورة. والعفريت هو الشيطان الداهية الخبيث. أما المارد فهو العاتي الشديد من شياطين الإنس والجن، وشيطان مارد: أي خبيث متمرد، شرير، لعنة الله عليه. تلك هي بعض المعاني اللغوية التي لخصتها من "لسان العرب" والحقائق المؤلمة التي رأيت بعضها على مسرح الحياة واطلعت على بعضها الآخر في كتب التاريخ هي أن هناك من شياطين الإنس من هم أخبث وأعتى وأدهى وأشر وأمكر من شياطين الجن. ويغلب على ظني أن شياطين اليهود وشياطين النصارى هم أكثر شياطين الإنس شرا وقبحا واجراما وفظاعة.
فهم باستبدادهم العنيف وتجبرهم الوحشي على شعوب الأرض فكريا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا وصناعيا وعلميا، أقرب إلى معشر الجن، منهم إلى معشر الإنس. لعل جدتهم كانت من خبائث الجن.
لكن كل الشياطين سيعترفون –رغم أنوفهم – بكفرهم وجرائمهم وفسادهم وضلالهم، قال تعالى: "يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. قال: النار مثواكم، خالدين فيها إلا ما شاء الله،إن ربك حكيم عليم. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون.
يا معشر الجن والإنس: ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟
قالوا: شهدنا على أنفسنا.
وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين" . "الأنعام: 128-130"
ولقد خلق الله –سبحانه- الجان من النار قبل أن يخلق الإنسان من الصلصال - و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من جمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم". "الحجر: 26-27"
وقد ورد في الحديث: خلق الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من النار وخلق آدم مما وصف لكم". رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- أنه قال: "كانت الجن قبل آدم بألفي عام، فسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم". "ابن كثير: قصص الأنبياء".
بعد أن مهدت الكلام عن شياطين الكون أتكلم الآن عن شياطين الجن بصفة خاصة، أعاذنا الله من نفخهم، وهمزهم، ونفثهم، ومسهم، ولحسهم، ووساوسهم، وخبثهم، ومكرهم، وكفرهم، وضلالهم، وجهلهم، وحمقهم، وعصيانهم، وكبرهم.
وأبدأ من بداية المأساة وأولى المعاصي: "وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. قال: يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون. قال فاخرج منها فإنك رجيم، و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
قال: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
قال: هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين، وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم". الحجر: 28-44".
فمنذ اللحظات الأولى للوجود البشري أعلن شيطان الجن بغضه وحقده وحسده واستكباره، وتوعد آدم وبنيه بالويل والتضليل والهلاك فكان بذلك أول شياطين الكون من الجن والإنس، وواضح كل الوضوح أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة، مصداق هذا: قول الله تعالى من سورة الكهف: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن، ففسق عن أمر ربه".
الذي يبرهن بصفة قطعية أن اللعين كان من معشر الجن، خلافا لما زعمه بعض علماء المسلمين من أنه كان من الملائكة.
وأعوان إبليس اللعين يبدؤون شغلهم منذ اللحظات الأولى لولادة أحفاد آدم عليه السلام.
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطانا وقرن الله به ملكا. فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر، والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن.فهما يدعوانه".
وهما القرينان الملازمان للإنسان طول حياته: قرين الشر من الشياطين وقرين الخير من الملائكة. ويحظران –يوم الحساب- محاسبة قرينهما من الإنس. والقرين الملائكي هو المقصود في قول الله تعالى من سورة" ق " : " وقال قرينه: هذا ما لديّ عتيد".
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن".
قالوا: "وإياك يا رسول الله ؟ "
قال: "وإياي، إلا أن الله تعالى أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير". "أخرجه مسلم".
قال الله تعالى: " و قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين ايديهم و ما خلفهم و حق عليهم القول في امم قد خلت من قبلهم من الجن و الانس انهم كانوا خاسرين " " فصلت: 25 "
وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء.
وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا ما لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء"
رواه مسلم".
ومن الشياطين: شيطان الوضوء، يدعى "الولهان" وشيطان الصلاة ويدعى" خنزب" يلهي المصلي عن صلاته بكثرة الوسوسة.
عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ذاك الشيطان يقال له "خنزب" فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ثلاثا، واتفل عن يسارك" ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.وشياطين الجن يتنقلون من مكان إلى مكان، دليل ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" وإذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا. وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا.
"رواه: مسلم والبخاري".وقال الله تعالى: "ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءانا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون" "الزخرف: 36-39".
وقال الله عز وجل: "يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا" "النساء: 120"
وأخبر الله تعالى عن تسمع الشياطين المردة إلى الملإ الأعلى بقوله: "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملإ الأعلى، ويقذفون من كل جانب دحورا، ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب" " الصافات: 6-10"
و خبرة شياطين الجن في فنون المكر والدهاء والخبث لا جدال فيها، فقد علمهم إبليس اللعين جميع مناهج الفساد والإجرام و أهلك جبل كثير من الإنس لتهافت جميعهم على الرذائل والقبائح والمتعة الزائلة.
"و لقد صدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وربك على كل شيء حفيظ". "سبأ: 20-21".
أما مقام اللعين فهو في الماء، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه. فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة". "رواه مسلم"
وعندما قرأت هذا الحديث، أدركت جيدا أسباب تعري الناس على شواطئ البحار أين يكثر الغزل، وتشرب الخمور، وتقام سهرات الدعارة والمجون، يختلط فيها الليل بالنهار،ويرقص فيها شياطين المتعة مع شيطانات اللذة *ويمن*. و من تلك الشطوط « La côte d'Azur » بفرنسا، أين يتخلى شياطين الإنس عن كل الثياب، فتنكشف عورات الرجال والنساء، وتلغى أحكام السماء وقوانين الأرض.
ولعل اقتراب شياطين الإنس من المقام الذي وضع فيه إبليس اللعين عرشه هو أخبث معين وأمكر مساعد على تهييج الجوارح واستعباد معشر الإنس.ورحم الله الشابي بقوله في إرادة الحياة:
و من لا يحب صعود الجبـــال يعش أبد الدهر بين الحفــــر
وأطرقت أصغي لقصف الرعـود وعزف الرياح ووقع المطـــر
وقالت لي الأرض لمـا سألــت: أيا أم هل تكرهين البشــــر ؟
"أبارك في الناس أهـل الطمـوح ؟ و من يستلذ ركوب الخطـــر".
ولقد أصاب عالم السياسة الجليل: عبد الرحمان بن خلدون عين الحقيقة عندما أقر في مقدمة تاريخه بأن للهواء تأثير في كثير من أحوال البشر… وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم، فتسخنت لذلك، حدث لهم فرح، وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور… وكذلك أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة…" أه.كلام ابن خلدون". أما المداخل التي ينفذ منها إبليس اللعين وأعوانه إلى الكائن البشري، فهي باختصار شديد :
*الدنيا: ويشتمل هذا المدخل على النساء والأولاد والأنعام والزخارف، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
"ما تركت في الناس بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". "رواه: مسلم".
وقال عليه الصلاة والسلام: " إني لا أصافح النساء". " رواه الترمذي"
*الرياء، والتكبر والاغترار بالعلم والمال والجاه والقوة .
*الحسد، والغضب، والبغضاء، والنفاق.
*اللهو، والفراغ، والعبث، فقد قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:
"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". "رواه: البخاري".
*الشبهات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الحلال بين وإن الحرام بين، و بينهما أمور متشابهات فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". "رواه البخاري ومسلم".
*الإفراط: ومنه التشدد في المعاملات مع الناس، والوسوسة والمغالاة، والتسرع، والتبذير. قال الله تعالى: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا". "الإسراء: 27".
*التفريط ومنه التسويف والتأخير والتأجيل، وعدم الإيفاء بالعهود، والاستخفاف بالذنوب، واليأس، والتشاؤم، والتهاون، وتعطيل حدود الله تعالى.
ذات يوم خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال:
"هذا سبيل الله مستقيما". ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ عليه الصلاة والسلام قول الله تعالى: "وإن هذا صراطي مستقيما، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل". "الأنعام: 153".
قال׃ قتادة رحمه الله تعالى
«لما اهبط ابليس قال يا رب لعنتني فما عملي? قال׃ السحر
قال ׃فما قراني? قال׃ الشعر
قال فما كتابي ?قال׃ الوشم
قال׃ فما طعامي? قال׃ كل ميتة و ما لم يذكر اسم الله عليه
قال׃ فما شرابي? قال׃ كل مسكر
قال׃ فاين مسكني ? قال ׃ الاسواق
قال׃ فما صوتي? قال׃ المزامير
قال׃ فما مصايدي? قال׃ النساء? »
« رواه الطبراني في معجمه و ابن القيم في اغاثة اللهفان من مكايد الشيطان»
و روى ابن ابي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان و حيله حديثا عن ابي امامة مرفوعا الى رسول الله صلى الله عليه
و سلم هذا نصه كما ورد في كتاب ابن القيم اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان׃
« ان ابليس لما انزل الى الارض قال يا رب انزلتني الى الارض و جعلتني رجيما فاجعل لي بيتا، قال׃ الحمام قال ׃ فاجعل لي مجلسا ، قال׃ الاسواق و مجامع الطرقات، قال׃ فاجعل لي طعاما، قال ׃ كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال׃ فاجعل لي شرابا قال׃ كل مسكر قال׃ فاجعل لي مؤذنا قال المزمار قال׃ فاجعل لي قرانا قال׃ الشعر، قال׃ فاجعل لي كتابا قال الوشم ، قال׃ فاجعل لي حديثا قال الكذب، قال׃ فاجعل لي رسلا، قال׃ الكهنة، قال׃ فاجعل لي مصايد، قال׃ النساء »
و شواهد هذا اﻟﺃثر كثيرة فكل جملة منه لها شواهد من السنة او من القران فكون السحر من عمل الشيطان فشاهده قوله تعالى׃
(« 2 ׃ 102 » و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) و اما كون الشعر قرانه فشاهده ما رواه ابو داود في سننه من حديث جبير « انه راى رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي فقال
الله اكبر كبيرا، الله اكبر كبيرا ، الله اكبر كبير، الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا ،
و سبحان الله بكرة و اصيلا −ثلاثا−
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم׃ من نفخه، و نفثه، و همزه، قال نفثه الشعر، و نفخه الكبر، وهمزه الموتة » ومعنى الموتة الجنون « رواه ابو سعيد الخدري رضي الله عنه»
و لما علم الله رسوله القران، و هو كلامه صانه، من تعليم قران الشيطان و اخبر انه لا ينبغي له، فقال׃
(« 36׃69 » و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له)
و اما كون الوشم كتابه فانه من عمله و تزيينه و لهذا لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الواشمة و المستوشمة فلعن الكاتبة و المكتوب عليها ۰ رواه ابن عباس رضي الله عنه
و اما كون الميته و متروك التسمية طعامه فان الشيطان يستحل الطعام اذا لم يذكر عليه اسم الله و يشارك ﺁكله ،
و الميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى فهي و كل طعام لا يذكر عليه اسم الله عز و جل من طعامه و لهذا لما ﺳﺃل الجن الذين امنوا برسول الله صلى الله عليه و سلم الزاد قال׃
« لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه فلم يبح لهم طعام الشياطين و هو متروك التسمية »
« رواه ابن مسعود رضي الله عنه»
و اما كون المسكر شرابه فقال تعالى:
(«5 ׃90 » يا ايها الذين امنوا انما الخمر و الميسر و الانصاب و الازلام رجس من عمل الشيطان) فهو يشرب من الشراب الذي عمله اولياؤه بامره و شاركهم في عمله فيشاركهم في عمله و شربه و اثمه و عقوبته۰
و اما كون الاسواق مجلسه فقد جاء في الحديث عن الشيطان الرجيم ׃
« انه يركز رايته بالسوق»
و لهذا يحضره اللغو و اللغط و الصخب و الخيانة و الغش، و كثير من عمله.
و عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قد وصف النبي صلى الله عليه و سلم في الكتب المتقدمة ׃
« انه ليس صخابا بالاسواق» رواه البخاري و مسلم.
و اما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة و في حديث ابي سعيد رضي الله عنه
« الارض كلها مسجد الا المقبرة و الحمام» « رواه احمد و الترمذي و الحاكم »
و لانه محل كشف العورات، و هو بيت مؤسس على النار و هي مادة الشيطان التي خلق منها.
و اما كون المزمار مؤذنه، ففي غاية المناسبة، فان الغناء قرﺁنه، و الرقص و التصفيق الذين هما المكاء و التصدية صلاته، فلا بد لهذه الصلاة من مؤذن و ﺇمام و ﻤﺃموم، فالمؤذن المزمار، و الامام المغني، و اﻟﻤﺃموم الحاضرون.
و اما كون الكذب حديثه، فهو الكاذب ، الامر بالكذب ، المزين له، فكل كذب يقع في العالم فهومن تعليمه
و حديثه. و اما كون الكهنة رسوله ، فلان المشركين يهرعون اليهم، و يفزعون اليهم في امورهم العظام،
و يصدقونهم ، و يتحاكمون اليهم ، و يرضون بحكمهم، كما يفعل اتباع الرسل بالرسل، فانهم يعتقدون انهم يعلمون الغيب و يخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل. فالكهنة رسل الشيطان حقيقة، ارسلهم الى حزبه من المشركين و شبههم بالرسل الصادقين حتى استجاب لهم حزبه، و مثل رسل الله بهم لينفر عنهم، و يجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب. و لما كان بين النوعين اعظم التضاد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
« من اتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما انزل على محمد »
« رواه الطبراني عن ابن عباس »
ﻔﺇن الناس قسمان اتباع الكهنة، و اتباع رسول الله .
فلا يجتمع في العبد ان يكون من هؤلاء و هؤلاء بل يبعد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدر قربه من
الكاهن ، و يكذب الرسول بقدر تصديقه للكاهن .
و قوله: اجعل لي مصايد. قال: مصايدك النساء. فالنساء اعظم شبكة له يصطاد بهن الرجال .
ويجب على المسلم التمسك بالشريعة و مطالعة احاديث المصطفى صلى الله عليه و سلم و اخلاقه و اوصافه و تواضعه ۰ لان الشيطان لا يغفل عنه ساعة يدخل عليه من ابواب كثيرة فياتيه و يقول له مالك و الطريق المستقيم و قد مات اهله و فات زمانه و انت في زمان׃ « القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر» و اذا اردت سلوك هذا المسلك فعلى يد من تسلك ? اين اصحاب الايمان ، اين المتقين، اين الخاشعين ?
ثم يوسوس له׃ ان الله يحب ان تؤتى رخصه كما يكره ان تؤتى معصيته و ان الله يحب ان تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه (و ان الله يحب ان تؤتى رخصه كما يحب ان تؤتى عزائمه )
ويواصل وسوسته بقوله له لا تشدد على نفسك لان الله يقول ׃« و ما جعل عليكم في الدين من حرج» « الحج׃78 »
فاذا اصغى المسلم لهذا الكلام و اتبع الرخص اقترب من الشبهات بين الحلال و الحرام ۰ و من تناول الشبهات و فعلها فقد حام حول الحرام و قرب منه ۰و الشبهات تظلم القلب و متى اظلم القلب وقع في الحرام و عندئذ يهلك مع الهالكين اما قول المصطفى صلى الله عليه و سلم « ان الرجل ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخل النار» فهو حديث صحيح رواه احمد عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها ۰
وهذا الرجل عمل بعمل اهل الجنة و لكن قلبه لم يطمئن بالايمان فلا شك انه عند الموت لا تنفعه تلك الاعمال و يظهر ما في باطنه من الكفر لان الايمان اذا لم يكن عن اليقين فلا فائدة له قال الله سبحانه ׃ « و ان الظن لا يغني من الحق شيئا» « النجم ׃ 28»
لذلك يجب على المؤمن ان يحصل في العقائد ما يزيل عنه الشبهة و الظن۰
و اما الذي يسلك الطريق المستقيم و قلبه مشبع بالايمان و عقله منقطع الى التدبر و العلم فان اللعين يدخل عليه من ابواب اخرى منها انه׃
يحسن لهم ما يصنعون من الاعمال و يزينها لهم فيدخل عليهم العجب بنفوسهم و اعمالهم و يوسوس لهم ان المقصود من الاستقامة هو الثبات على العمل الصالح و انتم حصلتم عليه فلا حاجة لكم الى العلم و لا الى نصيحة العلماء لان العالم الذي ينصحكم ليته ينصح نفسه فهو لا يبلغ معشار ما تعلمون و عندما يتمكن منهم العجب يستعظمون انفسهم و يحتقرون غيرهم و تسوء اخلاقهم و صاروا لا يقبلون من عالم علما و لا من عابد عبادة فيغرقون في بحار الجهل۰
و من وساوس اللعين انه يقول للعابد المخلص ׃ قد تحققتم و علمتم ان لا اله الا الله و انه المبدئ و هو المعيد و منه بدا الامر و اليه يعود و لا يتحرك متحرك الا بقدرته و قد جف القلم و اهل النار للنار و اهل الجنة للجنة و هذا لا يعلمه الا امثالك فلا تتعب نفسك بالاعمال الشاقة و دع العبادة لغيرك من المبتدئين من عامة المسلمين فيقع في الزنى و يقرع الخمر و ياكل الحرام و لا يزال الشيطان يتلاعب به حتى يتخذه وليا من دون الله تعالى و لقد علم المسلمون ان النبي صلى الله عليه و سلم لم يترك فريضة من الفرائض و لا نافلة من النوافل و لم يتحدث اصحابه رضوان الله عنهم بشيء من ذلك فكل قول لا يوافق الشريعة المحمدية فهو زندقة و كفر و ضلال۰
قال الله تعالى׃
« قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله » « ال عمران׃ 31»
قال الله تعالى׃
« و من الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله واللذين امنوا اشد حبا لله ۰ و لو يرى اللذين ظلموا اذ يرون العذاب ان القوة لله جميعا و ان الله شديد العذاب » «البقرة׃165»
ومن مداخل إبليس اللعين على الإنسان ايضا ومكره به أن يستدرجه بشيء من النصح واستمالته شيئا فشيئا إلى أن يطرحه في الرذيلة والجريمة والكفر. مثال ذلك قصة عابد بني إسرائيل: عن وهب بن منبه رضي الله عنه وهو من مسلمة اليهود وعلمائهم أن:
عابدا كان في بني إسرائيل وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة اخوة لهم أخت، وكانت بكرا، ليست لهم أخت غيرها. فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. فأجمعوا رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم.فأتوه، فسألوه أن يخلفوها عنده فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزوتهم. فأبى ذلك، وتعوذ بالله عز وجل منهم ومن أختهم، فلم يزالوا به حتى أطاعهم. فقال: أنزلوها في بيت قريب من صومعتي. فأنزلوها في ذلك البيت. ثم انطلقوا وتركوها.
فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة ثم يغلق بابه ويصعد إلى صومعته ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام.
فتلطف له الشيطان، فلم يزل يرغبه في الخير ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم لأجرك.
فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ووضعه على باب بيتها، ولم يكلمها، فلبث على هذه الحالة زمانا.
ثم جاءه إبليس اللعين فرغبه في الخير والأجر وحضه عليه. فقال: لو كنت تكلمها وتحدثها، فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع إليها من فوق صومعته.
ثم أتاه إبليس اللعين بعد ذلك، فقال لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها، وتقعد هي على باب بيتها فتحدثك كان آنس لها، فلم يزل به حتى أنزله و أجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه، وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها، فلبثا زمانا يتحدثان.
ثم جاءه إبليس اللعين فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريبا من باب بيتها فحدثتها كان آنس لها، فلم يزل به حتى فعل فلبثا زمانا.
ثم جاءه إبليس اللعين فرغبه في الخير وفيما له عند الله من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له:لو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فتحدثها ولم تخرج من بيتها، ففعل. ثم جاءه إبليس اللعين، فقال: لو دخلت البيت معها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهارها كله ونسي صلاته، فإذا مضى النهار صعد إلى صومعته. ثم أتاه إبليس اللعين بعد ذلك فلم يزل يزينها له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاما.وجاءه إبليس اللعين وقال له: أرأيت إن جاء اخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع ؟لا آمن أن تفتضح فاعمد إلى ابنها فاذبحه و ادفنه ففعل، ثم قال له: أتراها تكتم اخوتها ما صنعت بها ؟ خذها واذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها. ثم صعد إلى صومعته يتعبد فيها. فلما أقبل اخوتها من الغزو وسألوه عنها، نعاها لهم وترحم عليها وبكاها. وأراهم قبرها، فبكوا أختهم وترحموا عليها وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم فبدأ بأكبرهم فسأله عن أخته فأخبره بقول العابد، فقال له: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها و ألقاهما في حفرة خلف باب البيت وأتى الأوسط والأصغر وقال لهما مثل ذلك. فلما استيقظوا تعجبوا مما رأى كل واحد منهم، فذهبوا إلى البيت الذي كانت فيه أختهم. وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين كما قيل لهم. فسألوا عنها العابد فقص لهم القصة.
فاستعدوا عليه ملكهم، فأنزل من صومعته وقدم ليصلب. فلما أوثقوه على الخشبة، أتاه الشيطان، فقال له:
قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها. فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصورك، خلصتك مما أنت فيه . فكفر العابد، فلما كفر بالله تعالى خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.قال ابن منبه: ففيه نزلت:
"كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر، فلما كفر قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين". "الحشر: 16-17".
وألاحظ عقب هذه القصة أن الطبراني قال: "فضل العلم خير من فضل العبادة" وأقول: لو كان عابد بني إسرائيل عالما بحقائق الشريعة اليهودية ومقاصدها لما قبل العيش على انفراد مع امرأة أجنبية عنه، ذلك أن الغرائز الحيوانية تتحرك عند الإنسان عندما يختلي بالجنس المكمل له خاصة إذا كان يعيش في الحرمان والكبت، مهما ارتقى في سلم التقوى والزهد والعبادة والعلم. فغاية إبليس اللعين من إدخال العابد في بيت الجارية بعد أن أنزله من صومعته ليست جريمة الزنى أو جريمة القتل فحسب، فتلك الجرائم رغم فظاعتها لا تروي غليله من أعبد أهل زمانه، وإنما الهدف الأساسي من كل ذلك هو التدرج بذلك المسكين نحو الكفر والشرك، وقد نجح في مسعاه الخبيث، ولو تمسك العابد وهو على خشبة الصلب بإيمانه بالله لما خسر الآخرة بعد أن خسر الدنيا.و رغم طول القصة فقد سردتها كاملة كي يتعظ بها فقهاء البشر وعلماؤهم، لأن اللعين يشحذ أشد الأسلحة للفتك بهم وإبعادهم عن طريق الله المستقيم.
وإبليس اللعين لم يكتف بعباد اليهود وعلمائهم الذين حرفوا التوراة وأحلوا ما حرم الله تعالى، بل استعمل أسلحة مماثلة مع فقهاء الإسلام، فأفتوا لشياطين الحكم في كل ما رغبوا فيه من اللذائذ والنزوات. فهذا يزيد بن عبد الملك كان يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة في الدولة الأموية بالشام، فلما آلت له الخلافة عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز (الذي اعتبره المؤرخون: خامس الخلفاء الراشدين) ومكث على أسلوبه في الحكم أربعين ليلة فاستكثرها قرناء السوء وحسنوا له الظلم والفساد، وجمعوا له أربعين شيخا شهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب، فانغمس في مجالس اللهو والغناء حتى أنه قال ذات ليلة- وقد خف عقله من الطرب لجارية له، اسمها حبابة ومعها سلامة القس: دعوني أطير. فقالت حبابة: على من تدع الأمة، قال عليك، فخرج بعض خدمه وهم يقولون: ما أسخفك. وخرجت معه في نزهة فرماها في فمها بحبة عنب فشرقت وماتت فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يقبلها وينظر إليها ويبكي عليها، وحزن عليها سبعة أيام لا يظهر للناس وكان قد اشتراها بأربعة آلاف دينار.
ونسبت سلامة للقس: لأن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم ابن معاوية بن بكير كان فقيها عابدا مجتهدا في العبادة وكان يسمى القس لعبادته، مر يوما بمنزل مولى سلامة فسمع غناءها، فوقف يسمعه، فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع ؟ فأبى، وقال مولاها: أنا أقعدها بمكان لا تراها، وتسمع غناءها، فدخل معه فغنته فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه فشغف بها الفقيه العابد [ نحن نمر بنفس اللوحات التي شاهدناها عند عابد بني إسرائيل: بدأ النزول من الصومعة ثم دخول البيت، ثم الوقوع في الجرائم] وأحبها قس بني أمية، وأحبته هي أيضا –وكان شابا جميلا- فقالت له يوما على خلوة: أنا والله أحبك. فقال عابد بني أمية:
وأنا والله أحبك. فقالت سلامة المغنية: وأحب أن أقبلك فقال القس: وأنا والله. فقالت الجارية: وأحب أن أضع بطني على بطنك، فقال فقيه بني أمية: وأنا والله. فقالت الجارية: فما يمنعك ؟ قال قول الله تعالى: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"
وأنا أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته ( تماما كما عاد عابد بني إسرائيل إلى صومعته) ولعابد بني أمية في سلامة أشعار منها:
ألم ترها لا يبعد الله دارها إذا طربت في صوتها كيف تصنـع
تمد نظام القول ثم تردده إلى صلصل من صوتها يترجـــع
وله فيها أيضا:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصـر وهل أنت عن سلامة اليوم مقصـر
ألا ليت أني حيث صارت بها النوى جليس لسلمى كلما عـج مزهــر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها يطير إليها قلبه حيـن ينظــــر
فقيل لها: سلامة القس لشغفه بها.
وكان أجدر بفقيه بني أمية أن يترك لنا قصائدا في الفقه و الشريعة، ولا غرابة حينئذ في فتوى الأربعين شيخ لليزيد بن عبد الملك، بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنوبه وما تأخر، ما دام فقيههم يتغزل بجارية مغنية فاسقة. ولمن يريد التثبت في صحة هذه القصة: فعليه بالجزء الرابع من الكامل في التاريخ لابن الأثير. قال الله تعالى: "من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون، ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون" "الأعراف: 178-179"
وقال حكماء الإسلام: إحذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "… وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل. فالأول أصل فتنة الشّبهة والثاني أصل فتنة الشّهوة.
ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر. ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال تعالى:
"وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون". "السجدة:24".
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. و عن أبي موسى قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده في الأرض فيقول: من أضل مسلما ألبسته التاج، فيقول له القائل: لم أزل بفلان حتى طلق امرأته، قال: يوشك أن يتزوج ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق. قال يوشك أن يبر. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى زنى، قال: أنت (إذن فجريمة الزنى يكافئ عليها إبليس اللعين أعوانه الذين ينجحون في إقناع الناس بارتكابها، وهي كبيرة من الكبائر التي تستوجب الجلد) ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى شرب الخمر، قال أنت. (هذه أيضا جريمة يكافئ عنها شياطينه عندما ينجحون فيها). ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى قتل فيقول أنت أنت. (وألاحظ ههنا أن إبليس اللعين يلبس تاجه للشيطان الذي يقنع قرينه من الإنس بأن يقتل غيره ويسفك دماء الأبرياء، وهي جريمة لا يمكن التوبة منها، ولذلك يلبسه التاج ذلك اليوم). انتهى حديث أبي موسى وملاحظاتي عليه المحصورة بين الأقواس. ولقد ورد في كتب العلم أنه إذا عرج بروح المؤمن –عند الموت-إلى السماء، قالت الملائكة:
سبحان الله الذي نجى هذا العبد من الشيطان، يا ويحه كيف نجا ؟ وما كان هذا الاستغراب أن يقع لولا علم الملائكة بكثرة جنود إبليس عليه اللعنة السرمدية، ولولا مشاهدتهم اليومية منذ أن خلق الجن والإنس لأعمال التضليل والكفر والمكر والقبح والإجرام التي لم يخل منها حين من الدهر. وقد أفسد إبليس اللعين الكثير من المتعبدين لقلة علمهم، والكثير من العلماء لكثرة فجورهم وقلة تقواهم. والعلم هو نور القلب ومصباح العقل. ولقد توعد إبليس اللعين كل البشر بالويل والتضليل والفسق ولم يستثن منهم أي قوم من الأقوام المتعايشة على كوكب الأرض، دليلي على ذلك قول الحق تبارك وتعالى: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس قال:أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال: أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا. قال: اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا، واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلا". " الإسراء: 61-65".
اللهم ربنا اجعلنا من عبادك الذين ليس لإبليس عليهم سلطان، وكفى بك ربنا وكيلا. إن الشركات التي يديرها الشيطان يتكون رأس مالها من المال الحرام: كالربى والخمور والمخدرات والسرقات ونهب أرزاق الشعوب ومنح حكومة الترويكا التي استاثر بها المنخرطون في احزابها دون غيرهم وتبذير خزائن الأرض، ومن البشر المتخلقين من نطف الزنى والمتعة والتسيب. وهناك من البشر من يعبدون الجن، كما قال سبحانه: "ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ؟ قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنين".
"سبأ: 40-41".
وقال تعالى: "ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم". "الأنعام: 182" ومن هذه الطوائف أنواع من السحرة: يتخذون التعازيم، وأنواع الطلسمات التي يدعون فيها أسماء الجن، ويبخرون لها بأنواع من البخور، ومنهم من سمى سحرهم تحضير الأرواح، ومنهم من نسب سحرهم إلى سليمان على نبينا و عليه الصلاة والسلام: ومن عبادة الجن ذبح الديكة والخرفان السوداء والتلطخ بدمائها. ومنهم من يعتقد أن ما يوحي به الشيطان ويمليه عليه، إنما وصل إليه من بلوغ درجة عليا، انكشف له بها اللوح المحفوظ. ولا يغرنك أن تسمع هذا أو تراه من بعض المنتسبين إلى العلم، فإنهم حملوا العلم صورة ولم يحملوه حقيقة، فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا. ولقد انتشر كل ذلك في عصرنا هذا بين اليهود والنصارى والعرب والبربر وأخبثهم إطلاقا سحرة اليهود. فكل واحد من شياطين الجن والإنس انتفع بخدمة الآخر: فشيطان الجن يعمل جاهدا على تضليل وتكفير بني آدم ويعمل شيطان الإنس على التمتع بكل نعيم الدنيا والتسلط على الخلق والظلم والإجرام، فاستمتع الجن بالإنس في طاعة الإنس للجن فيما يأمرونهم به من الشرك والعصيان والكفر والفسوق وهذا هو أكثر أغراض الجن من الإنس. واستمتع الإنس بالجن لما أعان الجن الإنس على معصية الله وإفشاء الفساد بين البشر بالسحر والطلاسم وغيرها من الأعمال الخبيثة. فصبر جميل و يوم تقوم الساعة سيندم الجميع على كل ما أفسدوه و سيصدقهم اللعين للمرة الأولى والأخيرة عندما يتوجه إلى الجن والإنس وهو على منبر من نيران جهنم الغاضبة بالتصريح الذي أخبر عنه العزيز الحكيم تبارك وتعالى: " وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي. إني كفرت بما أشركتموني من قبل. وإن الظالمين لهم عذاب أليم". "إبراهيم عليه السلام"
فإذا سمع أهل النار هذا الخطاب من إبليس لعنوه جميعا ثم تلقيه الزبانية من فوق منبره في النار إلى أسفل السافلين، مؤبدا فيها مع من تبعه من أهل النار لا يموتون فيها ولا يخفف عنهم العذاب الغليظ. ومن معشر الجن من يسمعون كلام الله تعالى، دل على هذا ما ورد في سورة الأحقاف عن جن "نصيبين" الذين حضروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل "نخلة" وهو موضع على بعد ليلة من مكة، فقام في جوف الليل يصلي فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن: "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا، فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم. ومن
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire